[ كتبت هذا المقال قبل عملية فض اعتصامات رابعة والنهضة بيومين، لكن تأخر نشره لأسباب مختلفة، ولأن الوقت مبكر لاستيعاب وكتابة تحليل مترابط لما حدث، وما يمكن أن يترتب عليه، أعيد نشر المقال المتأخر - اللا متأخر حقيقة - مع تعليق في الخاتمة.]
(1)
يحب البعض ممارسة الأمنيزيا "فقدان الذاكرة" بشكل إرادي، ولأن فقدان الذاكرة يؤدي لتكرار الكوارث والأخطاء، فقد حاقت بالإسلاميين الهزيمة والنكران، بعد أن تمتعوا بأكبر حاضنة شعبية لسنين طويلة، أصبحوا فئة منبوذة ومكروهة شعبياً. إذ لم يتعلموا أي درس في تاريخهم الممتد 80 عاماً. التف الإسلاميون على الثورة ومطالبها، وساروا في رِكاب الجوقات المطبلة لعسكر طنطاوي وعنان، نسوا الشعب الذي حملهم الأمانة فأنساهم أنفسهم، ولاحقهم اليوم الخرطوش الذي كانوا يكذّبون بالأمس.
والآن، جاء دور بعض العلمانيين والقوميين في ممارسة الأمنيزيا الإرادية. لا أتحدث هنا عن جوقة إعلام مبارك وفلوله المتسلقين الذين تشد أعناقهم إلى أصابع السلطة حبال نراها جميعاً مهما تغيرت تلك السلطة، ولكن أتحدث عن بعض تلك الوجوه التي كانت كتفاً بكتف معاً في التحرير ومحمد محمود ومجلس الوزراء، فإذا بهم على درب الإخوان سائرون، ولأخطائهم مكررون.
يلتزم أغلب الثوريين "الكنبة" الآن، لأن الإخوان "ثوار مزيفون" ولأن شعاراتهم مزيفة وملفقة، وهذا صحيح تماماً، لكن العيب هو أن تسمح للكنبة وغثاء الإعلام المرئي أن تصيبك بالأمنيزيا الإرادية، وتدعي إن "الثورة وصلت للحكم".
الأمنيزيا التي يمارسها فريق من الناس الآن، تنسى وتتناسى مفاهيم الأمن القومي، ومتطلبات تحقيقه، وانعاكسات خطاب "الإرهاب" الخطيرة على العملية الديموقراطية وحقوق المواطنة، وتركز على كذب وتناقض الإخوان دون كذب وتناقض الجهة الأخرى. ثم تزايد في شوفينية خطيرة على كل من يحاول أن ينتقد ركاكة سياسات الحكومة الحالية، وتخبطها.
(2)
كعلماني مصري أزعم أني أنتسب للثورة ومبادئها وأهدافها، لديّ تحفظ شديد للغاية على وصف جماعة الإخوان والإسلاميين عامة بالإرهابيين، ولدي تحفظ بالغ نابع من نشاطي السياسي والأكاديمي على استخدام "خطاب الإرهاب" كقفاز يتم إلقاؤه فجأة في وجه المُخالفين والمُعارضين السياسيين، ولدينا ركام من التاريخ الأسود لاستخدام هذا الخطاب لتبرير أبشع الجرائم في كثير من دول العالم، وليس ببعيد عن الذاكرة كيف انتقدنا استخدام إدارة بوش لهذا المصطلح لتبرر غزو العراق وأفغانستان وسياستها الداخلية القمعية والسجون التي فتحتها خارج إطار القانون ... إلخ.
في رأيي إن جماعة الإخوان جماعة يمينية، تمارس الخطاب الطائفي وأحياناً التحريضي، وفي معظم دول العالم الديموقراطي توجد تلك النوعية من الجماعات، لكنها تبقى في الغالب على هامش السياسة ومعزولة شعبياً، وهذا ما قامت به انتفاضة 30 يونيو: العزل الشعبي.
من حق أي فصيل سياسي أن ينشئ حزباً يستلهم المرجعية الدينية. لكن من حق القضاء أيضاً أن يقول كلمة الفصل إن كانت الممارسات العملية على الأرض لهذا الحزب أو ذلك قد قامت بتجاوز فكرة المرجعية الدينية إلى التمييز بين المواطنين على أساس ديني، ولذا يجب أن تكون الأولولية الآن لوضع مواد في الدستور والقوانين المكملة له لتوضيح ماهية الحدود الفاصلة بين استلهام المرجعية الدينية وبين الأفعال التي يعاقب عليها القانون سواءً بمعاقبة الأفراد أو بحل الأحزاب التي تخالف ذلك. هنا تبرز أكثر جريمة المجلس العسكري ومن بعده مرسي، إذ لم يتم إرساء أي قواعد صحيّة أو واضحة للعمل السياسي، وما قام به الشعب في 30 يونيو من عزل الإخوان شعبياً يجب أن يبنى عليه في القانون والدستور.
لقد قمت بدراسة مصغرة مؤخراً لبرنامج الأحزاب الإسلامية، وفاجئني (نص نص) إن بعضها (مثل حزب النور) ينفي تماماً فكرة "المواطنة" ويتحدث صراحة أو مواربة عن رفضه لها في برنامجه الحزبي، من المسؤول عن هذه الكارثة؟ أليس هم عسكر طنطاوي وعنان وإدارتهم الكارثية للمرحلة الانتقالية عن طريق الصفقات على حساب الشعب الغلبان؟ كيف أجازت لجنة الأحزاب مثل تلك الكوارث؟ هل هناك عملية ديموقراطية باقتراع وصناديق تشارك فيها أحزاب لا تؤمن بالمواطنة أصلاً؟ بل وتقول علانية إنها تتحفظ على فكرة المواطنة التي هي أساس الدولة القومية الحديثة، والعملية الديموقراطية؟
(3)
لهذا أجد نفسي أثق نسبياً (مع احتفاظي بحق الاختلاف) في أي حل يقوده البرادعي وفريقه للخروج من الأزمة، لكني لن أثق في حل يقوده العسكر ومنتعلي البيادة في قلب المدينة. ما صلة ذلك بثقتي في البرادعي وعدم ثقتي في العسكر؟ إن البرادعي في رأيي عبر عن تلك الرؤية وعن رغبته في عدم شيطنة الإسلاميين وفي ذات الوقت أبدى حرصه على إرساء قواعد دستورية واضحة للعبة السياسية تحفظ هوية الدولة المصرية القومية وتجعل التنافس الحزبي حزبياً فعلاً وليس دينياً أو عقدياً.
أما العسكر فكل الشواهد حتى الآن تقول إن أفعالهم هي استمرار للسياسات القديمة: عدم الشفافية - عدم الرغبة في بناء دولة القانون - المفاوضات مع الإخوان أو الشيطان خلف الكواليس - التوصل لصفقات على حساب القانون ومستقبل البلد. كيف ذلك؟
قام العسكر بإلقاء القبض على عدد من رموز الإخوان تِباعاً ولم يتضح أبداً ماهية المعايير التي تم بها ذلك، فلماذا تم القبض على حلمي الجزار وليس محمود غزلان، رغم إن الأخير مارس التحريض الفج؟ ولماذا تم الزج برفاعة الطهطاوي في قضية معتصمي الإتحادية بينما محمود غزلان كان هو المحرض الأساسي؟ ولماذا وعلى أي أساس تم اعتقال أبو العلا ماضي مثلاً؟ لماذا لم يتم توجيه تهمة قتل المتظاهرين لمرسي بينما وجهت له تهم أخرى بعضها لا عقلانية مُضحكة، في أغلب الظن كي يتم حفظ كل تلك القضايا فور التوصل إلى صفقة مع الإخوان؟
بعد أيام قليلة من انتفاضة 30 يونيو ظل العسكر ينفون أي نية للتفاوض أو المحادثة مع الإخوان، وبعد فترة أصبح كل شيء علنياً وأصبحت مصر محطة للوفود الدولية التي تأتي تحت غطاء البحث عن مخرج، وفي الحقيقة ليست سوى وساطات للوصول لصفقة ما، يتخلى بموجبها الإخوان عن فكرة عودة مرسي ويفضون اعتصاماتهم في مقابل مكاسب أخرى ... يبدو إن من بينها حتى الآن بقاء وضع جماعة الإخوان خارج القانون. فالعسكر حتى الآن يكررون خطيئة المجلس العسكري السابق ولا يتحدثون عن وضع جماعة الإخوان كجماعة فوق القانون لم تقم بتوفيق أوضاعها وفق قانون الجمعيات، بينما يقومون باعتقال بعض القادة اعتباطياً وبتهم فيها شبهة تسيس واضحة من حيث التوقيت والمضمون.
ومرة أخرى كناشط علماني مصري، لا يقلقني أبداً الإفراج عن قيادات الإخوان مالم تثبت عليهم أي تهم حقيقية فعلية، لكن يقلقني جداً أن تظل هناك جماعات تعمل خارج إطار القانون ويظل تمويلها غير خاضع لأجهزة الدولة التدقيقية ويظل نشاطها سرياً في بلد قام أهلها بثورة على نظام الظلم والتلفيق والكذب وكان يتطلع لدولة تحفظ القانون والكرامة.
(4)
كعلماني مصري يقلقني جداً عدم اهتمام أجهزة الأمن بما يحدث للأقباط في صعيد مصر وترك البلد والناس فريسة للعنف الطائفي. كعلماني مصري يقلقني عدم حرص أي نظام جاء بعد ثورة يناير على تعديل التشريعات الإعلامية لتوفر المناخ الصحي الذي يمكن من خلاله محاسبة المخالفين لقيم المهنة من خلال هيئة محايدة لا تكمم الأفواه بل تصحح المسار، وتكفل التعددية.
كعلماني مصري يقلقني أن يكون مستقبل سيناء من بؤس التساهل مع الجماعات الإسلامية المسلحة التي يحبها مرسي وإخوانه، ويعتبرها شقيقته أيدولوجياً، إلى عبث العقلية الأمنية والاعتقالات العشوائية والمحاكمات العسكرية للأبرياء.
كعلماني مصري لا أرى إن المشكلة في اعتصامات الإخوان، بقدر ما هي في شفافية تعامل الحكومة مع الأزمة السياسية الموجودة، وما هي الأطروحات المختلفة التي قبلها الإخوان أو لم يقبلوها ولماذا نسمع كل هذا التضارب في الأراء من داخل الحكومة الواحدة ذاتها؟
كعلماني مصري، أرى إن الحكومة الحالية تسير على نفس خطى الإخوان الفاشلة ... من الشحاتة والاقتراض، واستجداء الغرب وأنظمة الخليج، والإقصاء السياسي، ومهاجمة الإعلام المخالف وملاحقته ... إلخ، وباختصار: أرى إنه لم يتعلم الدرس أحد، وإن الأمنيزيا الإرادية ستقود البلاد إلى الكوارث.
----
تعليق أخير:
- يجب التزام الكنبة وعدم الاستجابة لدعوات حماية أقسام الشرطة أو منشآت الدولة لأن تلك وظيفة الأجهزة الأمنية وليست وظيفة المدنيين. ولأن وجود مدنيين سيفاقم من الاقتتال الأهلي.
- بين أنصار "اضرب يا مرسي" وإعلام "افرم يا سيسي" سيبكي هذا الشعب بدل الدموع دماً، وستفيض الجثث والخوذ والمدرعات في اقتتال لا طائل تحته، وبعد أن يشبع الجميع قتلاً بين قاتل ومقتول، سيعود الجميع مرة أخرى لطاولة المفاوضات والحوار، وسيلجأون لنفس الحلول التي كانوا نبذوها بالأمس، وهم ينظرون لمشهد الوطن الممزق الدامي ويتساءلون في دهشة الأغبياء: ما الذي أوصلنا هاهنا؟